خلفــاء محمـــــد علـــــى
دراسة عبد المجيد راشد
الجزء الأول " من إبراهيم باشا الى الخديو اسماعيل "
***
عمد محمد على بعد معاهدة لندن إلى تجنب النفوذ الأجنبي ووضع يده على المواصلات التي أنشأتها الشركات الإنجليزية وجعلته يتحاشى إنجلترا بفرنسا وفرنسا بإنجلترا محاولا التخلص منهما جميعا، بل إن محمد على عارض شق "قناة السويس" حتى لا يمكّن بريطانيا من السيطرة على مصر، وتكشف عن ذلك محاوراته مع القنصل الفرنسي بينيدتى، ففي مذكرة الأخير المؤرخة في أول مارس 1843، شرح لحكومته معارضة محمد على : " يرتاب في إستدعاء الأوروبيين إلى مصر ويظن أنه حالما يفتح البرزخ فسوف يتعاظم إشتهاء إنجلترا في تملك إمبراطوريته، وفي ختام الأمر فانه يرتاب في عدم كفاية قواته العسكرية للدفاع عن موضع هام للغاية، وعدم كفاية موارده المالية لتنفيذ مشروعات جديدة كبيرة ". [1]
والواقع انه إبتداء من معاهدة لندن في 15 يوليو 1840 بين النمسا وبريطانيا العظمى وبروسيا وروسيا من ناحية وجناب الباب العالي " السلطان العثمانى " من ناحية أخرى، يدخل تاريخ المجتمع المصري في إطار الإستعمار ثم الإمبريالية، وكانت الحكومة البريطانية هي التي تحرك خيوط المؤامرة في نطاق التقارب بين إنجلترا وروسيا، و ذلك لأنهم رأوا أن إحتكارات محمد على تمثل حجر الزاوية في قوته الإقتصادية [2].. وتلك القوة يجب وضعها في الإطار العام لإنجازات محمد على، فكان التصنيع وهيمنة الدولة على مختلف النشاطات الإقتصادية - الإحتكارات - ، في خدمة الجيش الرابض على حدود الإمبراطورية من اليمن إلى السودان، ولكن الموقف تغير تماما بصدور مرسوم 13 فبراير 1841 الذي إستهدف الجيش المصري - مباشرة - فقضى بتقليصه إلى 18 ألف جندى بالإضافة إلى 2000 متدربين في تركيا.
ولم يبق أمام محمد على بعد القضاء على الإحتكارات إلا أن يتقرب من الباب العالي بهدف إيقاف الضغط الأوروبي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يفتح أبواب مصر للتجارة الحرة، وقد كان، ففتحت مصر أبوابها للبضائع الأوروبية وسرعان ما قلّت قدرة الصناعات المحلية على مواجهة هذه المنافسة التي لم تكن منتظرة قبل عام 1838، ولم تستطع هذه الصناعات المحلية الإستمرار بعد وفاة محمد على، وهكذا أصبح الباب مفتوحا أمام التدخل الأجنبي. [3]
وقد سار إبنه إبراهيم الذي خلفه لفترة قصيرة " من إبريل إلى نوفمبر 1848" في نفس الطريق حتى وفاته في 10 نوفمبر عام 1848.
وأتى عباس الأول "1849 - 1854" بعدهما، فإقتدى بذلك، وكان يؤمن بسلامة هذه السياسة، بل أنه أنقص الجيش، وأزال ما كان يقوم على هامشه من منشآت، وأقفل ما وجد من مدارس، وهدم الأسطول الذي كان يصل البلاد بالخارج/ وفرض القيود على الأجانب المقيمين، لتصبح سياسة عباس الأول في النهاية "عقلية إيقاف من نوع سلبي للتدخل الإقتصادي الأوروبي" ، ورغم ذلك إستطاعت الدول الأوروبية زرع قناصلها في مصر كطلائع للتدخل، وفي عهده تقلص النفوذ الفرنسي وأصبحت المصالح الإنجليزية في وضع أفضل مما كانت عليه من قبل، وكان عهد عباس الأول خلوا من أعمال النهضة والعمران بإستثناء إنشاء السكة الحديد بين القاهرة والإسكندرية وإصلاح سكة السويس الحجرية. [4]
وبعد كسر عماد إقتصاد الإكتفاء الذاتي "الإحتكار" وفرض الإنكسار في نهاية حكم محمد على وحكم إبراهيم باشا، ثم العزلة السلبية وزرع القناصل إبان حكم عباس الأول، لم يبق أمام رأس المال الأوروبي - في مرحلة التوسع الرأسمالي - سوى غزو مصر ثم إغراقها في الديون. [5]
ثم تولى سعيد "1854 - 1863" وكانت حرية التجارة والصناعة والمواصلات كما رآها الغرب، وكان تعاقب المهاجرين على مصر من كل صوب، ثم إقبال رؤوس الأموال الأجنبية من كل حدب، وكانت الحكومة هي المالك الوحيد المحتكر، ومن ثم كانت الأموال القادمة تطرق أبواب الحكومة بصفتها المنتج الأكبر والوحيد ، أو السلطة الوحيدة القائمة التي يستطيع أن يتجه إليها أصحاب الأموال للحصول على ما يريدونه، وإنقلب القناصل إلى سماسرة ينالون الإمتيازات لأصدقائهم أو شركائهم ويقترضون القروض ويتمون الصفقات، وتحولوا إلى أدوات للغزو المالي للإقتصاد المصري. [6]
وتورط الوالي سعيد في مشروعات لم تكن مصر بحاجة لها، وأضخمها وأخطرها مشروعات عالمية تفوق حاجات البلاد، وتدور جميعا حول وصل مراكز الإنتاج الغربية بمنابع تموينها وأسواق إستهلاكها في أسيا وإفريقيا كسكة حديد السويس والقناة وغيرهما، فضلا عن سخاء الوالي مع مقرضيه الأجانب وإعطائه تعويضات كثيرة للمغامرين منهم الذين كانوا يستثمرون موالهم أأنىةرتنلبتاىقفتاىىتلارتاأسيتىايبأتناتتتتنتتأنمبتنىيسبثلفالفغلأموالهم في مصر على أن يعوضهم سعيد عن خسارتهم إذا أصابهم الخسارة، وأسرف في معيشته الشخصية وفي إنفاقه على الجيش في غير استعداد لحرب. [7]
وترتب على سفه الوالي سعيد أن عانت ميزانية الدولة من عجز متوال طوال سنوات حكمه، بل أن العجز في الميزانية زاد عن إيرادات الدولة في آخر ثلاث سنوات (1861 ، 1862 ، 1862) وكانت الإيرادات 2.154.000 ، 3.707.000 ، 6.094.000 مليون جنيه، وكان العجز 3.030.000 ، 5.161.000 ، 8.301.000 مليون جنيه.[8]
أما حجر الزاوية والذي يمثل بداية تدخل رأس المال الأوروبي في مصر ، وهو في قمة توسعه الإستعماري ، ذلك الإمتياز الذى منحه سعيد لصديق طفولته فرديناند دي ليسبس بحفر قناة السويس في 30 نوفمبر 1854، والذي أعلن رسميا بالفرمان الصادر في 19 مايو 1855، وكان الدافع إلى ذلك هو نابليون الثالث بنفسه الذي أسرع بتحويل "شركة دراسات قناة السويس" المؤسسة في 27 نوفمبر 1846 من ثلاث مجموعات كل منها يتألف من عشرة أعضاء تمثل بريطانيا العظمى وفرنسا والنمسا إلى "هيئة إدارة الشركة العالمية لقناة السويس" المؤلفة في 30 نوفمبر 1854، "حتى يكون تكوينها من رجال الأعمال عونا لرجال الدولة في مفاوضاتهم الدبلوماسية" كما يوضح نابليون الثالث لـ" لانفنتان "، وقد أبعد هذا الاخير، سريعا، عن المشروع لصالح ديليسبس وحده الذي ما برح، منذ ذلك الحين، يضغط على سعيد للحصول على جميع الإمتيازات باسم الصداقة. [9]
وسرعان ما خضع سعيد لديليسبس الذي كان يتمتع بالتأييد السياسي والمالي الكبير في أوروبا، ففي حين كان النص التركى للفرمان الأول يمنح ديليسبس "تصريحا خاصا" ، فقد عمد هذا الأخير إلى تغيير ذلك في النص الفرنسي إلى "سلطة قاصرة" عليه، وفي 5 يناير 1856 صدر فرمان آخر، في إنتظار تصديق الباب العالي، كانت بنوده - وهي في مجموعها تعتبر "إمتيازا" وليس "إنتدابا" - أكثر قسوة وجورا، ففي المادة العاشرة ضمن ديليسبس للشركة ملكية الأراضي الواقعة على طول القناة، وكذلك تلك الواقعة على طول قناة التغذية المتفرعة من النيل، وفي 20 يناير 1856 صدر قرار تكميلي يعطى الشركة حق إستخدام من 20 إلى 30 ألف رجل كل شهر على سبيل السخرة في أعمال القناة، والنقطة الثانية الرئيسية هي : كيف يمول شق القناة؟ وتم ذلك عن طريق طرح 400.000 سهم، قيمة كل منها 500 فرنك إشترت منها فرنسا 207.111، أما بريطانيا العظمى والنمسا وروسيا والولايات المتحدة فقد رفضت الـ 85.506 سهم التي خصصت لها، ولم تأخذ أسبانيا وهولندا إلا 3%.
ومنذ ذلك الحين أصبح الهدف الأساسي من مناورات ديليسبس هو أن يدفع سعيد إلى قبول الـ 96.517 سهما المخصصة لتركيا، وكذلك الباقي، وعلى ذلك فان تحميل خزانة مصر 44% من رأس مال الشركة المسماة "عالمية" كان من المفروض أن تتألف من رؤوس الأموال الحرة في أوروبا، كان بمثابة دفع سعيد إلى حافة هاوية القروض والمشكلات المالية المعقدة والتعجيل بالإفلاس. [10]
أخذ ديليسبس يدفع البلاد، بلا هوادة، في طريق القروض الأجنبية، وكان أول عناصر هذا "الغزو الرهني" ، يتمثل في إصدار سندات الخزانة إبتداء من عام 1858، وقد وجدت البنوك، التي بدأت تتكاثر، في هذه العملية ربحا يصل إلى 18% وفي سرعة فائقة صدرت سندات تعيين الحصص بمعدل خصم 26% وكان بنك "الكونتوار دي كومنت" في باريس يقوم بمساندة المشروع 0
وأخيرا، فإن الضغوط التي كانت تمارس ضد الباب العالي جعلته يوافق على أول قرض إنجليزي ألماني في 18 مارس 1862 وقيمته 3.292.800 جنيه إسترليني "3.210.480 جنيه مصري" بربح 8%. وعندما توفي سعيد في 18 يناير 1863، كان العجز في الميزانية المصرية قد ارتفع إلى 367.000.000 فرنك فرنسي "14.313.000 جنيه مصري" طبقا لأكثر التقديرات شيوعا. [11]
تجربة إسماعيل :ـ
عندما تولى إسماعيل الحكم كان قد مضى أكثر من عشرين عاما على معاهدة لندن 1840 التي فرضتها القوى الأوروبية الكبرى آنذاك على محمد على باشا بالتفاهم مع السلطان العثماني وذلك لتحجيم قوة محمد على والى مصر والتي لم تكن تهدد السلطان العثماني فقط، وإنما باتت تهدد التوازن الدولي الذي فرضته القوى الأوروبية في فيينا عام 1815 بعد التخلص من نابليون بونابرت وطموحاته، وقد أقعدت هذه المعاهدة محمد على في مصر بعد أن أجبرته على إخلاء المناطق التي إنزاح إليها أثناء صراعه مع السلطان العثماني، وأدت إلى تبعيتة عندما فرض عليه تطبيق المعاهدات التي عقدتها الدولة العثمانية، وهي إشارة غير مباشرة إلى معاهدة بلطة ليمان البريطانية - العثمانية التي عقدت في 1838 وكانت تقضى بفتح السوق المصرية أمام المنتج البريطاني. [12]
كان هذا هو وضع مصر عثمانيا ودوليا الذي وجده إسماعيل باشا عندما تولى الحكم، حالة من التبعية الواضحة في إطار قواعد وضعت بعناية لتجعل والى مصر قعيدا لا يبرح مكانه، وحبيسا لا يتطلع خارج الدائرة المحددة. [13]
غير أن إسماعيل الذي تعرف على تاريخ جده محمد على باشا، وأحاط بمعالم بناء القوة الذاتية لمصر، وأدرك سمعة مصر في العالم المحيط آنذاك، وعرف مصادر القوة الأوروبية فترة حياته دارسا بفرنسا ومتجولا في أنحاء المعمورة الأوروبية، لم يكن ممكنا أن يصبح صورة مماثلة لسلفيه سعيد وعباس الأول، ومن هنا جاءت سياساته في التخلص من القيود الدولية، والتحرر من الشروط العثمانية، والعودة بمصر إلى المكانة التي وضعها فيها جده محمد على، لكن الثمن كان باهظا، والهدف كان أكبر من الإمكانيات المتاحة، ومن الظروف المحيطة، والوسيلة في الإستقلال بالقروض، كانت المأزق الذي حاصر الهدف في النهاية وصرعه، وفي هذين السياقين المحلى والدولي، يتعين النظر إلى مجمل سياسات إسماعيل وتصرفاته وليس خارجهما. [14]
إستوعب إسماعيل كل دروس أسلافه، وكان يحلم بأن يتفادى كل الأخطاء والأخطار بتتبع طرقا ووسائل سياسة ودبلوماسية، فقرر ألا يصطدم بالإمبراطورية العثمانية ويستفز بذلك كل الذئاب المتربصة والمتكالبة على وراثة "الرجل المريض" وقرر أيضا ألا يصطدم بأوروبا، وأن يشق طريقا عبر تسخير المتناقضات أو موازنة السياسات، و أن يبنى دولته الحديثة بالتعاون مع أوروبا وليس بالتحدي كما فعل أبوه وجده، وقرر الإنفتاح على الدول جميعا، بلا تميز أو تحيز، وتوسيعا لإطار التعاون والتعايش إمتد إلى دول ليست ذات أطماع في إسكندناوه، ثم عبر المحيط إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأن يكون المجال الحيوي الطبيعي لمصر تفاديا للصدام مع أوروبا هو بطول "وادي النيل" مصدر الخير والحياة الأساسي لمصر، وأن يتجه نحو الجنوب، وتحقيقا للحلم الكبير أعد أكبر برنامج إصلاح منذ وضع جده وأبوه الأساس، وأن يبنى دولة سياسية - إقتصادية - ثقافية - إستراتيجية، تقوم على الأعمدة الأربعة التي قامت عليها الدول الأوروبية الحديثة. [15]
ولم يكن أمام الخديوي من طريق سوى طريق الإقتراض التي سار فيها بلا هوادة، مسلما مصر إلى فخ القروض ثم التدخل الأجنبي ولم يكد يمر عام واحد على تولية إسماعيل، حتى طرق أبواب الإستدانة، وبعده قلما مر عام دون أن يعقد إسماعيل قرضا جديدا، ويكفي أن يقال أنه بدخول عام 1868 - أي قبل أن يمضى على تولية الوالي خمسة أعوام - كان قد أثقل كاهل مصر بديون متنوعة المصادر تزيد عن 25.500.000 جنيه وتتراوح فائدتها الإسمية بين 7%، 12%، أما عن فائدتها الحقيقية فتتراوح بين 12%، و 26%. [16]
ولما فشل الخديوي إسماعيل في دفع الدين بالدين، إضطر في إبريل 1876 لتأجيل دفع السندات والأقساط المستحقة على الحكومة في إبريل ومايو من تلك السنة لمدة ثلاثة شهور ولم يجد بدا من إعلان الإفلاس، إذ أصدر دكريتو في 7 إبريل بالتوقف عن الدفع، وكان من نتيجة إعلان الإفلاس أن ذعر الدائنون الأوروبيون فطلب الخديوي إسماعيل من وكلاء الدائنين الفرنسيين وضع نظام يضمن لهم إستيفاء ديونهم، فإقترحوا توحيد الديون وإنشاء صندوق الدين، وأصدر إسماعيل مرسوما في 2 مايو 1876 بإنشاء صندوق الدين، وتنفيذا للمرسوم أنشئت إدارة خاصة بالدين سميت "صندوق الدين المصري العام" وعينت كل من فرنسا والنمسا وإيطاليا مندوبا عنها، وإمتنعت إنجلترا عن تعيين مندوبها وتضمن المرسوم أن يختص الصندوق بتسليم المبالغ المخصصة للديون من مصادرها وتوزيع هذه المبالغ على الدائنين على أن تورد الإيرادات المخصصة من صندوق إيراداتها لصندوق الدين، كما لا يجوز لها أن تعقد قرضا جديدا إلا بعد موافقة صندوق الدين وتختص المحاكم المختلطة بنظر الدعاوى التي يرى صندوق الدين رفعها على الحكومة، وفي 7 مايو 1876 أصدر إسماعيل مرسوما ثانيا بتوحيد الدين، نص على تحويل الديون السنية و والديون السائرة إلى دين واحد عرف باسم الدين الموحد بقيمة 91 مليون جنيه إسترليني بفائدة 7% ويسدد في 65 سنة وخصصت لسداده إيرادات مديريات الغربية والمنوفية والبحيرة وأسيوط وعوائد الدخولية في القاهرة والإسكندرية وإيرادات جمارك الإسكندرية والسويس وبورسعيد ورشيد ودمياط والعريش وإيرادات ضريبة الملح ومصايد المطرية بالدقهلية ورسوم الكباري وعوائد الملاحة في النيل وإيرادات كوبري قصر النيل وإيرادات أطيان الدائرة السنية. [17]
ولم يكد يمر عام واحد على صندوق الدين حتى تبين الإستنزاف الإستعماري، حيث بلغت مستحقات القروض من أقساط وفوائد أكثر من 70% من مصروفات الميزانية عام 1877 مما أدى إلى تشكيل لجنة تحقيق أوروبية لفحص الشئون المالية المصرية، تكونت من أعضاء صندوق الدين وبرئاسة فرديناند دى ليسبس ووكالة ريفرز ويلسون ورياض باشا، كما ضمت دى بلينيز كممثل لفرنسا وقدمت تقريرا للعلاج، رفعته للخديوي، إقترحت فيه نزول الخديوي عن أطيانه وأطيان عائلته لسد عجز ميزانية الحكومة الذي بلغت قيمته 9.243.263 جنيه ويخصص له راتب سنوي فضلا عن نزوله عن سلطته المطلقة وذلك بتأليف نظارة تحكم البلاد الى جانبه، وفي 28 أغسطس 1878 أنشئت وزارة برئاسة نوبار باشا ضمت رياض باشا ناظرا للخارجية والحقانية وعلى باشا مبارك للمعارف والأوقاف وأستعيض عن المراقبين الأجنبيين بوزيرين أجنبيين أحدهما إنجليزي "ريفرز ويلسون" للمالية، والآخر فرنسي "دي بيلينز" للأشغال، وبموجب مرسوم 12 ديسمبر 1878 أصبح فصل أحد الناظرين الأجنبيين دون موافقة حكومته مبررا لعودة الرقابة الثنائية، كما صار لهما حق تشريع القوانين المالية لمصر وفي نظارة توفيق، كان لهما حق الفيتو في مجلس النظار.
وهكذا أصبحت مصر منذ عام 1876 ضيعة بعيدة للملاك الأوروبيين يقبضون ريعها من صندوق الدين ويتقرر مصيرها في لندن وباريس وبشهادة نوبار نفسه، فعندما طلبت إيطاليا منصبا وزاريا، أخبر القنصل الإيطالي أنه إذا كانت حكومته تصر على أن تنال منصبا وزاريا كمنصب ناظر الحقانية مثلا فعليها أن تتقدم بطلبها إلى لندن أو باريس لأن المسائل المتعلقة بمصر تتقرر هناك. [18]
وفي النهاية تحول إسماعيل إلى مدافع عن إستقلال مصر النسبي، الذي كان يعنى بالنسبة له استقلال الحكم، بعد تقييد سلطته وشلها بالناظرين الأجانب وإجباره عن التنازل عن أملاكه، وكان السبيل هو المطالبة بأن تتشكل "حكومة وطنية" بدلا من "الحكومة الأجنبية" ثم يشكل إسماعيل حكومة مصرية برئاسة محمد شريف باشا ويرفض الخديوي إعلان إفلاس مصر متحديا وزير المالية الإنجليزي ولجنة التحقيق ويوافق على اللائحة الوطنية التي وضعها للنواب والعلماء والأعيان كتسوية مصرية للديون ثم يعقبها بمرسوم 22 ابريل 1879 ويرفض طلب إنجلترا وفرنسا بالتنازل عن العرش لأبنه توفيق، حتى تنضم ألمانيا إلى إنجلترا وفرنسا وتتبعهما النمسا وإيطاليا، ويصدر فرمان الباب العالي بعزل إسماعيل وتنصيب توفيق في 26 يونيو 1879.
وهنا ينكشف الوجه الإستعماري لرأس المال الغربي الذي لم يقبل بمجرد نزح مصر من خلال صندوق الدين، ثم الرقابة المالية الثنائية، ثم الحكم الثنائي، وإنما كان الهدف هو تحويل مصر إلى مستعمرة خاضعة له.
دراسة عبد المجيد راشد
الجزء الأول " من إبراهيم باشا الى الخديو اسماعيل "
***
عمد محمد على بعد معاهدة لندن إلى تجنب النفوذ الأجنبي ووضع يده على المواصلات التي أنشأتها الشركات الإنجليزية وجعلته يتحاشى إنجلترا بفرنسا وفرنسا بإنجلترا محاولا التخلص منهما جميعا، بل إن محمد على عارض شق "قناة السويس" حتى لا يمكّن بريطانيا من السيطرة على مصر، وتكشف عن ذلك محاوراته مع القنصل الفرنسي بينيدتى، ففي مذكرة الأخير المؤرخة في أول مارس 1843، شرح لحكومته معارضة محمد على : " يرتاب في إستدعاء الأوروبيين إلى مصر ويظن أنه حالما يفتح البرزخ فسوف يتعاظم إشتهاء إنجلترا في تملك إمبراطوريته، وفي ختام الأمر فانه يرتاب في عدم كفاية قواته العسكرية للدفاع عن موضع هام للغاية، وعدم كفاية موارده المالية لتنفيذ مشروعات جديدة كبيرة ". [1]
والواقع انه إبتداء من معاهدة لندن في 15 يوليو 1840 بين النمسا وبريطانيا العظمى وبروسيا وروسيا من ناحية وجناب الباب العالي " السلطان العثمانى " من ناحية أخرى، يدخل تاريخ المجتمع المصري في إطار الإستعمار ثم الإمبريالية، وكانت الحكومة البريطانية هي التي تحرك خيوط المؤامرة في نطاق التقارب بين إنجلترا وروسيا، و ذلك لأنهم رأوا أن إحتكارات محمد على تمثل حجر الزاوية في قوته الإقتصادية [2].. وتلك القوة يجب وضعها في الإطار العام لإنجازات محمد على، فكان التصنيع وهيمنة الدولة على مختلف النشاطات الإقتصادية - الإحتكارات - ، في خدمة الجيش الرابض على حدود الإمبراطورية من اليمن إلى السودان، ولكن الموقف تغير تماما بصدور مرسوم 13 فبراير 1841 الذي إستهدف الجيش المصري - مباشرة - فقضى بتقليصه إلى 18 ألف جندى بالإضافة إلى 2000 متدربين في تركيا.
ولم يبق أمام محمد على بعد القضاء على الإحتكارات إلا أن يتقرب من الباب العالي بهدف إيقاف الضغط الأوروبي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يفتح أبواب مصر للتجارة الحرة، وقد كان، ففتحت مصر أبوابها للبضائع الأوروبية وسرعان ما قلّت قدرة الصناعات المحلية على مواجهة هذه المنافسة التي لم تكن منتظرة قبل عام 1838، ولم تستطع هذه الصناعات المحلية الإستمرار بعد وفاة محمد على، وهكذا أصبح الباب مفتوحا أمام التدخل الأجنبي. [3]
وقد سار إبنه إبراهيم الذي خلفه لفترة قصيرة " من إبريل إلى نوفمبر 1848" في نفس الطريق حتى وفاته في 10 نوفمبر عام 1848.
وأتى عباس الأول "1849 - 1854" بعدهما، فإقتدى بذلك، وكان يؤمن بسلامة هذه السياسة، بل أنه أنقص الجيش، وأزال ما كان يقوم على هامشه من منشآت، وأقفل ما وجد من مدارس، وهدم الأسطول الذي كان يصل البلاد بالخارج/ وفرض القيود على الأجانب المقيمين، لتصبح سياسة عباس الأول في النهاية "عقلية إيقاف من نوع سلبي للتدخل الإقتصادي الأوروبي" ، ورغم ذلك إستطاعت الدول الأوروبية زرع قناصلها في مصر كطلائع للتدخل، وفي عهده تقلص النفوذ الفرنسي وأصبحت المصالح الإنجليزية في وضع أفضل مما كانت عليه من قبل، وكان عهد عباس الأول خلوا من أعمال النهضة والعمران بإستثناء إنشاء السكة الحديد بين القاهرة والإسكندرية وإصلاح سكة السويس الحجرية. [4]
وبعد كسر عماد إقتصاد الإكتفاء الذاتي "الإحتكار" وفرض الإنكسار في نهاية حكم محمد على وحكم إبراهيم باشا، ثم العزلة السلبية وزرع القناصل إبان حكم عباس الأول، لم يبق أمام رأس المال الأوروبي - في مرحلة التوسع الرأسمالي - سوى غزو مصر ثم إغراقها في الديون. [5]
ثم تولى سعيد "1854 - 1863" وكانت حرية التجارة والصناعة والمواصلات كما رآها الغرب، وكان تعاقب المهاجرين على مصر من كل صوب، ثم إقبال رؤوس الأموال الأجنبية من كل حدب، وكانت الحكومة هي المالك الوحيد المحتكر، ومن ثم كانت الأموال القادمة تطرق أبواب الحكومة بصفتها المنتج الأكبر والوحيد ، أو السلطة الوحيدة القائمة التي يستطيع أن يتجه إليها أصحاب الأموال للحصول على ما يريدونه، وإنقلب القناصل إلى سماسرة ينالون الإمتيازات لأصدقائهم أو شركائهم ويقترضون القروض ويتمون الصفقات، وتحولوا إلى أدوات للغزو المالي للإقتصاد المصري. [6]
وتورط الوالي سعيد في مشروعات لم تكن مصر بحاجة لها، وأضخمها وأخطرها مشروعات عالمية تفوق حاجات البلاد، وتدور جميعا حول وصل مراكز الإنتاج الغربية بمنابع تموينها وأسواق إستهلاكها في أسيا وإفريقيا كسكة حديد السويس والقناة وغيرهما، فضلا عن سخاء الوالي مع مقرضيه الأجانب وإعطائه تعويضات كثيرة للمغامرين منهم الذين كانوا يستثمرون موالهم أأنىةرتنلبتاىقفتاىىتلارتاأسيتىايبأتناتتتتنتتأنمبتنىيسبثلفالفغلأموالهم في مصر على أن يعوضهم سعيد عن خسارتهم إذا أصابهم الخسارة، وأسرف في معيشته الشخصية وفي إنفاقه على الجيش في غير استعداد لحرب. [7]
وترتب على سفه الوالي سعيد أن عانت ميزانية الدولة من عجز متوال طوال سنوات حكمه، بل أن العجز في الميزانية زاد عن إيرادات الدولة في آخر ثلاث سنوات (1861 ، 1862 ، 1862) وكانت الإيرادات 2.154.000 ، 3.707.000 ، 6.094.000 مليون جنيه، وكان العجز 3.030.000 ، 5.161.000 ، 8.301.000 مليون جنيه.[8]
أما حجر الزاوية والذي يمثل بداية تدخل رأس المال الأوروبي في مصر ، وهو في قمة توسعه الإستعماري ، ذلك الإمتياز الذى منحه سعيد لصديق طفولته فرديناند دي ليسبس بحفر قناة السويس في 30 نوفمبر 1854، والذي أعلن رسميا بالفرمان الصادر في 19 مايو 1855، وكان الدافع إلى ذلك هو نابليون الثالث بنفسه الذي أسرع بتحويل "شركة دراسات قناة السويس" المؤسسة في 27 نوفمبر 1846 من ثلاث مجموعات كل منها يتألف من عشرة أعضاء تمثل بريطانيا العظمى وفرنسا والنمسا إلى "هيئة إدارة الشركة العالمية لقناة السويس" المؤلفة في 30 نوفمبر 1854، "حتى يكون تكوينها من رجال الأعمال عونا لرجال الدولة في مفاوضاتهم الدبلوماسية" كما يوضح نابليون الثالث لـ" لانفنتان "، وقد أبعد هذا الاخير، سريعا، عن المشروع لصالح ديليسبس وحده الذي ما برح، منذ ذلك الحين، يضغط على سعيد للحصول على جميع الإمتيازات باسم الصداقة. [9]
وسرعان ما خضع سعيد لديليسبس الذي كان يتمتع بالتأييد السياسي والمالي الكبير في أوروبا، ففي حين كان النص التركى للفرمان الأول يمنح ديليسبس "تصريحا خاصا" ، فقد عمد هذا الأخير إلى تغيير ذلك في النص الفرنسي إلى "سلطة قاصرة" عليه، وفي 5 يناير 1856 صدر فرمان آخر، في إنتظار تصديق الباب العالي، كانت بنوده - وهي في مجموعها تعتبر "إمتيازا" وليس "إنتدابا" - أكثر قسوة وجورا، ففي المادة العاشرة ضمن ديليسبس للشركة ملكية الأراضي الواقعة على طول القناة، وكذلك تلك الواقعة على طول قناة التغذية المتفرعة من النيل، وفي 20 يناير 1856 صدر قرار تكميلي يعطى الشركة حق إستخدام من 20 إلى 30 ألف رجل كل شهر على سبيل السخرة في أعمال القناة، والنقطة الثانية الرئيسية هي : كيف يمول شق القناة؟ وتم ذلك عن طريق طرح 400.000 سهم، قيمة كل منها 500 فرنك إشترت منها فرنسا 207.111، أما بريطانيا العظمى والنمسا وروسيا والولايات المتحدة فقد رفضت الـ 85.506 سهم التي خصصت لها، ولم تأخذ أسبانيا وهولندا إلا 3%.
ومنذ ذلك الحين أصبح الهدف الأساسي من مناورات ديليسبس هو أن يدفع سعيد إلى قبول الـ 96.517 سهما المخصصة لتركيا، وكذلك الباقي، وعلى ذلك فان تحميل خزانة مصر 44% من رأس مال الشركة المسماة "عالمية" كان من المفروض أن تتألف من رؤوس الأموال الحرة في أوروبا، كان بمثابة دفع سعيد إلى حافة هاوية القروض والمشكلات المالية المعقدة والتعجيل بالإفلاس. [10]
أخذ ديليسبس يدفع البلاد، بلا هوادة، في طريق القروض الأجنبية، وكان أول عناصر هذا "الغزو الرهني" ، يتمثل في إصدار سندات الخزانة إبتداء من عام 1858، وقد وجدت البنوك، التي بدأت تتكاثر، في هذه العملية ربحا يصل إلى 18% وفي سرعة فائقة صدرت سندات تعيين الحصص بمعدل خصم 26% وكان بنك "الكونتوار دي كومنت" في باريس يقوم بمساندة المشروع 0
وأخيرا، فإن الضغوط التي كانت تمارس ضد الباب العالي جعلته يوافق على أول قرض إنجليزي ألماني في 18 مارس 1862 وقيمته 3.292.800 جنيه إسترليني "3.210.480 جنيه مصري" بربح 8%. وعندما توفي سعيد في 18 يناير 1863، كان العجز في الميزانية المصرية قد ارتفع إلى 367.000.000 فرنك فرنسي "14.313.000 جنيه مصري" طبقا لأكثر التقديرات شيوعا. [11]
تجربة إسماعيل :ـ
عندما تولى إسماعيل الحكم كان قد مضى أكثر من عشرين عاما على معاهدة لندن 1840 التي فرضتها القوى الأوروبية الكبرى آنذاك على محمد على باشا بالتفاهم مع السلطان العثماني وذلك لتحجيم قوة محمد على والى مصر والتي لم تكن تهدد السلطان العثماني فقط، وإنما باتت تهدد التوازن الدولي الذي فرضته القوى الأوروبية في فيينا عام 1815 بعد التخلص من نابليون بونابرت وطموحاته، وقد أقعدت هذه المعاهدة محمد على في مصر بعد أن أجبرته على إخلاء المناطق التي إنزاح إليها أثناء صراعه مع السلطان العثماني، وأدت إلى تبعيتة عندما فرض عليه تطبيق المعاهدات التي عقدتها الدولة العثمانية، وهي إشارة غير مباشرة إلى معاهدة بلطة ليمان البريطانية - العثمانية التي عقدت في 1838 وكانت تقضى بفتح السوق المصرية أمام المنتج البريطاني. [12]
كان هذا هو وضع مصر عثمانيا ودوليا الذي وجده إسماعيل باشا عندما تولى الحكم، حالة من التبعية الواضحة في إطار قواعد وضعت بعناية لتجعل والى مصر قعيدا لا يبرح مكانه، وحبيسا لا يتطلع خارج الدائرة المحددة. [13]
غير أن إسماعيل الذي تعرف على تاريخ جده محمد على باشا، وأحاط بمعالم بناء القوة الذاتية لمصر، وأدرك سمعة مصر في العالم المحيط آنذاك، وعرف مصادر القوة الأوروبية فترة حياته دارسا بفرنسا ومتجولا في أنحاء المعمورة الأوروبية، لم يكن ممكنا أن يصبح صورة مماثلة لسلفيه سعيد وعباس الأول، ومن هنا جاءت سياساته في التخلص من القيود الدولية، والتحرر من الشروط العثمانية، والعودة بمصر إلى المكانة التي وضعها فيها جده محمد على، لكن الثمن كان باهظا، والهدف كان أكبر من الإمكانيات المتاحة، ومن الظروف المحيطة، والوسيلة في الإستقلال بالقروض، كانت المأزق الذي حاصر الهدف في النهاية وصرعه، وفي هذين السياقين المحلى والدولي، يتعين النظر إلى مجمل سياسات إسماعيل وتصرفاته وليس خارجهما. [14]
إستوعب إسماعيل كل دروس أسلافه، وكان يحلم بأن يتفادى كل الأخطاء والأخطار بتتبع طرقا ووسائل سياسة ودبلوماسية، فقرر ألا يصطدم بالإمبراطورية العثمانية ويستفز بذلك كل الذئاب المتربصة والمتكالبة على وراثة "الرجل المريض" وقرر أيضا ألا يصطدم بأوروبا، وأن يشق طريقا عبر تسخير المتناقضات أو موازنة السياسات، و أن يبنى دولته الحديثة بالتعاون مع أوروبا وليس بالتحدي كما فعل أبوه وجده، وقرر الإنفتاح على الدول جميعا، بلا تميز أو تحيز، وتوسيعا لإطار التعاون والتعايش إمتد إلى دول ليست ذات أطماع في إسكندناوه، ثم عبر المحيط إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأن يكون المجال الحيوي الطبيعي لمصر تفاديا للصدام مع أوروبا هو بطول "وادي النيل" مصدر الخير والحياة الأساسي لمصر، وأن يتجه نحو الجنوب، وتحقيقا للحلم الكبير أعد أكبر برنامج إصلاح منذ وضع جده وأبوه الأساس، وأن يبنى دولة سياسية - إقتصادية - ثقافية - إستراتيجية، تقوم على الأعمدة الأربعة التي قامت عليها الدول الأوروبية الحديثة. [15]
ولم يكن أمام الخديوي من طريق سوى طريق الإقتراض التي سار فيها بلا هوادة، مسلما مصر إلى فخ القروض ثم التدخل الأجنبي ولم يكد يمر عام واحد على تولية إسماعيل، حتى طرق أبواب الإستدانة، وبعده قلما مر عام دون أن يعقد إسماعيل قرضا جديدا، ويكفي أن يقال أنه بدخول عام 1868 - أي قبل أن يمضى على تولية الوالي خمسة أعوام - كان قد أثقل كاهل مصر بديون متنوعة المصادر تزيد عن 25.500.000 جنيه وتتراوح فائدتها الإسمية بين 7%، 12%، أما عن فائدتها الحقيقية فتتراوح بين 12%، و 26%. [16]
ولما فشل الخديوي إسماعيل في دفع الدين بالدين، إضطر في إبريل 1876 لتأجيل دفع السندات والأقساط المستحقة على الحكومة في إبريل ومايو من تلك السنة لمدة ثلاثة شهور ولم يجد بدا من إعلان الإفلاس، إذ أصدر دكريتو في 7 إبريل بالتوقف عن الدفع، وكان من نتيجة إعلان الإفلاس أن ذعر الدائنون الأوروبيون فطلب الخديوي إسماعيل من وكلاء الدائنين الفرنسيين وضع نظام يضمن لهم إستيفاء ديونهم، فإقترحوا توحيد الديون وإنشاء صندوق الدين، وأصدر إسماعيل مرسوما في 2 مايو 1876 بإنشاء صندوق الدين، وتنفيذا للمرسوم أنشئت إدارة خاصة بالدين سميت "صندوق الدين المصري العام" وعينت كل من فرنسا والنمسا وإيطاليا مندوبا عنها، وإمتنعت إنجلترا عن تعيين مندوبها وتضمن المرسوم أن يختص الصندوق بتسليم المبالغ المخصصة للديون من مصادرها وتوزيع هذه المبالغ على الدائنين على أن تورد الإيرادات المخصصة من صندوق إيراداتها لصندوق الدين، كما لا يجوز لها أن تعقد قرضا جديدا إلا بعد موافقة صندوق الدين وتختص المحاكم المختلطة بنظر الدعاوى التي يرى صندوق الدين رفعها على الحكومة، وفي 7 مايو 1876 أصدر إسماعيل مرسوما ثانيا بتوحيد الدين، نص على تحويل الديون السنية و والديون السائرة إلى دين واحد عرف باسم الدين الموحد بقيمة 91 مليون جنيه إسترليني بفائدة 7% ويسدد في 65 سنة وخصصت لسداده إيرادات مديريات الغربية والمنوفية والبحيرة وأسيوط وعوائد الدخولية في القاهرة والإسكندرية وإيرادات جمارك الإسكندرية والسويس وبورسعيد ورشيد ودمياط والعريش وإيرادات ضريبة الملح ومصايد المطرية بالدقهلية ورسوم الكباري وعوائد الملاحة في النيل وإيرادات كوبري قصر النيل وإيرادات أطيان الدائرة السنية. [17]
ولم يكد يمر عام واحد على صندوق الدين حتى تبين الإستنزاف الإستعماري، حيث بلغت مستحقات القروض من أقساط وفوائد أكثر من 70% من مصروفات الميزانية عام 1877 مما أدى إلى تشكيل لجنة تحقيق أوروبية لفحص الشئون المالية المصرية، تكونت من أعضاء صندوق الدين وبرئاسة فرديناند دى ليسبس ووكالة ريفرز ويلسون ورياض باشا، كما ضمت دى بلينيز كممثل لفرنسا وقدمت تقريرا للعلاج، رفعته للخديوي، إقترحت فيه نزول الخديوي عن أطيانه وأطيان عائلته لسد عجز ميزانية الحكومة الذي بلغت قيمته 9.243.263 جنيه ويخصص له راتب سنوي فضلا عن نزوله عن سلطته المطلقة وذلك بتأليف نظارة تحكم البلاد الى جانبه، وفي 28 أغسطس 1878 أنشئت وزارة برئاسة نوبار باشا ضمت رياض باشا ناظرا للخارجية والحقانية وعلى باشا مبارك للمعارف والأوقاف وأستعيض عن المراقبين الأجنبيين بوزيرين أجنبيين أحدهما إنجليزي "ريفرز ويلسون" للمالية، والآخر فرنسي "دي بيلينز" للأشغال، وبموجب مرسوم 12 ديسمبر 1878 أصبح فصل أحد الناظرين الأجنبيين دون موافقة حكومته مبررا لعودة الرقابة الثنائية، كما صار لهما حق تشريع القوانين المالية لمصر وفي نظارة توفيق، كان لهما حق الفيتو في مجلس النظار.
وهكذا أصبحت مصر منذ عام 1876 ضيعة بعيدة للملاك الأوروبيين يقبضون ريعها من صندوق الدين ويتقرر مصيرها في لندن وباريس وبشهادة نوبار نفسه، فعندما طلبت إيطاليا منصبا وزاريا، أخبر القنصل الإيطالي أنه إذا كانت حكومته تصر على أن تنال منصبا وزاريا كمنصب ناظر الحقانية مثلا فعليها أن تتقدم بطلبها إلى لندن أو باريس لأن المسائل المتعلقة بمصر تتقرر هناك. [18]
وفي النهاية تحول إسماعيل إلى مدافع عن إستقلال مصر النسبي، الذي كان يعنى بالنسبة له استقلال الحكم، بعد تقييد سلطته وشلها بالناظرين الأجانب وإجباره عن التنازل عن أملاكه، وكان السبيل هو المطالبة بأن تتشكل "حكومة وطنية" بدلا من "الحكومة الأجنبية" ثم يشكل إسماعيل حكومة مصرية برئاسة محمد شريف باشا ويرفض الخديوي إعلان إفلاس مصر متحديا وزير المالية الإنجليزي ولجنة التحقيق ويوافق على اللائحة الوطنية التي وضعها للنواب والعلماء والأعيان كتسوية مصرية للديون ثم يعقبها بمرسوم 22 ابريل 1879 ويرفض طلب إنجلترا وفرنسا بالتنازل عن العرش لأبنه توفيق، حتى تنضم ألمانيا إلى إنجلترا وفرنسا وتتبعهما النمسا وإيطاليا، ويصدر فرمان الباب العالي بعزل إسماعيل وتنصيب توفيق في 26 يونيو 1879.
وهنا ينكشف الوجه الإستعماري لرأس المال الغربي الذي لم يقبل بمجرد نزح مصر من خلال صندوق الدين، ثم الرقابة المالية الثنائية، ثم الحكم الثنائي، وإنما كان الهدف هو تحويل مصر إلى مستعمرة خاضعة له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق